تنتابني منذ فترة ليست بالقليلة حالة غريبة من الهدوء العجيب، والسكينة الفريدة، والطمأنينة المتزايدة، والدالة على توازن نفسي سليم إلى حد كبير ناتج عن دخول العقل والقلب معاً في مرحلة الوئام التام.
فخمدت أخيراً نيران نزاعاتهم الطويلة، وما عادا يستمعا لمن يدق طبول الحرب بينهما أخرى، وترفّع كلٌ منهما وبرغبةٍ قوية وإرادةٍ جليّة عن الدخول في حلبة الصراعات الكبرى من جديد والتي كان هدفها استعراض القُوى وإثبات أيهما الأفضل أو لفرض لغة بعينها بالقوة على الجسد كله فرضاً لا جدال فيه، سواء لغة القلب بمكنونات عواطفه ورقة شعوره، وموسيقى نبضاته التي تعزف سيمفونيات تفيض حباً، ونشوة أوتاره الرقيقة التي تنطق بكل معاني العشق من هيام وتضحية واحتواء وحنان، ومن ناحية أخرى هناك لغة العقل وما يصاحبها من دقة تحليله وفهمه العميق لبواطن الأمور، وعِظَم تدقيقه في التفاصيل، وقدرته الهائلة على الربط والقياس والاستنتاج ومقارنة الأقوال بالأفعال للوصول إلى نتيجة منطقية محكمة تثبت لغة القلب أو في الأغلب ترفضها وتنفيها وذلك وفقًا لأسسه ومعاييره.
فسادت مؤخرا أجواء من السلام التام في مكنونات النفس البشرية بين العقل والقلب معا، وهو سلامٌ عزيز ونعمة غالية وحلم أبدي لطالما سعت إليه النفس وتمنت تحقيقه بكل ما تملك من قوة، فكم من المرات تدخلت النفس في صراعات العقل والقلب كوسيطٍ موضوعي دقيق، لا يُقلل من قيمة أحدهما أو يُعلي من قدرة الآخر، لا، بل كانت كحكم عدل أعطى الفرص كاملة للاثنين بلا أدنى تفضيل أو تحيز لأحد على حساب أحد، مع مراعاة الحقوق الكاملة لكل طرف ومع الأخذ في الاعتبار مخاطبة كليهما باللغة التي يفهمها كل منهما.
ودخل كل من القلب والعقل مع النفس في منطقة الهدوء العجيب، وهي المنطقة التي ما إن دخل فيها أحد إلا وتبدلت أحواله وتغيرت صفاته من النقيض للنقيض، فالقلب والذي كان في الماضي يفز من بين ضلوعه صارخاً بأعلى الآهات معلناً حزنه الشديد وقت تعرضه للصدمات، باتت الآن نبضاته طبيعية وخفقانه عادياً، والهدوء يعم كامل أركانه، والصمت يسري في ثنايا أوردته، والطمأنينة تسبح في شرايينه، وقت تعرضه لنفس الصدمات، أما العقل والذي كان أكثر صخبًا وضجرًا ويهيج بعنف شديد بعد سجال من التحليلات المنطقية والمناظرات الفكرية مع القلب والتي يخرج منها رافضًا منهجه ساخطًا علي مشاعره و مُعلنا سيطرته الكاملة بعد إعلان قراراته الفاصلة والمنتهية والتي لا يقبل فيها نقاش أو جدال، بات الآن غريبا بشكل لافتٍ للنظر، أكثر هدوءا في ردود أفعاله، لا يغضب كسابق عهده هذا الغضب العاصف، ولم يعد ينشغل أساسًا بعناء التفكير وتحليل وتفنيد أسباب ونتائج الصدمات، أما النفس فهي في أفضل حالاتها تتجلى بفرح ونشوة غير عادية، تنعم بالسكينة والسلام القائم بين القلب والعقل بعد أن ارتاحت من صراعاتهما، وأخيرا النفس اقتنصت ملاذها الآمن وهو السلام الداخلي بين قطبيها القلب والعقل، وعلى وعد بألاّ تُفرط فيه أبدًا مهما كلفها الأمر.
وفي النهاية هل ستنجح النفس في الحفاظ على سلامها الداخلي إلى الأبد أم لا؟
الإجابة: لا أعرف! ولكني أثق فيها ثقة عظيمة.