يتمدد داخلى . يرتشف دمى . يتكور بجسدى. يخنق روحى . يتجاوز مألوفى . يدهش مسافاتى . ينأى بى عن رائحة الحنطة . يدخلنى خندق الوجع . أظل مقيما فيه . من يسرع بنجدتى . من يأخذ بناصيتى . من يغلق نافورة الحزن . من يوقف تيار دموع تتدفق . من يصلى فى المساجد . من يكتب قصيدة الحلم . من يقصى الوهم المتصلب بذاكرتى .
أكتب عن وطن أو بالأحرى أوطان مرسومة على الخرائط . لكنها توشك على الاندثارأو الانكسار أو الموت البطئ ,مسافرة هى نحو المجهول , غائبة أو مغيبة عن الوعى, فالدم المسفوك صار صلاة يومية بدون وضوء , البهجة رحلت مع الشمس التى اتجهت للأفق البعيد بعد شروقها صباحا ,بيد أنها فى المساء ,اختفت دون أن تطلع أحدا على موقع حضورها الآتى . الليل يعانق عتمة استثنائية , لون الأقمار شاحب حتى الثمالة , الطيور غادرت أعشاشها ,السنونوات لم تعد تطرب الأشجار , لم يعدهو صبيا فى المهد , السنوات حملته الى ستينيته فانبرى يكتب قصيدة ما قبل النهاية ,يفرط فى مفردات البهجة فتغالبه الدماء المتدثرة بعباءات البشر ,فيعود القهقرى الى المرثيات القديمة ,تقاسيمها على الجدران والطرقات ,والمسافات هى عنوان المقيم والمسافر ,رائحة الأفواه الجائعة ,والعيون التى تبلدت نظراتها ,فتشاطرت الإقامة فى خيام الوجوم والصمت .
عبثا أحاول القراءة فى كتاب الفرح , نائية صفحاته , غريبة طريقة تجليده ,وعنوانه الخارجى مصاب بلوثة من عتمة ,بادرت بتقليب صفحته الأولى هى أقرب لتجرع الوجع . قالى لى بائع الكتاب : هو صنيعة زماننا ,فأين هى البهجة مع تدفق فيضان الدموع ,وتكاثر الثكالى ,وصيحات الجوعى والحيارى ,ومن فقدوا الأحبة الذين رحلوا دون انتظار لإياب ,فنام الصبية والصبايا ,وفلذات الأكباد يحلمون بالذى ذهب ولن يعود. تتساءل فى براءة عن سفر الحبيب والدماء لاتكف عن السفر في البلاد .تصبح أيقونة الوجود اليومى فثمة من يحظى بالبهجة من مشاهد أشلاء الضحايا وقطع الرؤوس ,فيصيبه سكر من نوع خاص ,يصرخ فى البرية منتشيا رافعا راية الانتصار على جماجم الراحلين ممن قتلوا غيلة .
أتشرنق فى وجدى الذى يسكننى , أحاول أن أنغمس فى الغياب , أتجنب الحضور فيلاحقنى حزنى . أكابد جروحى هى أمة تعبث الآن , لاتجيد الحراك ,توقفت عضلاتها عن النمو أصرخ فيمن حولى , ألملم شعثى . الصمت هو الإجابة ,هو العنوان ,هو المهيمن على المشهد والصورة ,والبصائر فى واد آخر ,اسمه وادى البكاء على الأطلال , بينما البصيرة وئدت ,فبأى ذنب دفنت حية ,دونما صراخ أو سكون دون شيئ ,غابت الألسنة عن لهج الحق .تمادت العقول فى التفكير فى اللامعنى .فى الفراغ .في الهامشى ,تمددت جروحى آه أيها الوطن الكبير. من يمنحك حدة الفعل فى وجه الكلام الذى يحاصرك ,ويمنع عنك جريان الخضرة بحقولك. ويسكت صوت النوارس التى تغنى فى السواحل القريبة ويسد عن وديانك رحيق الجمال.
يجتاحنى ثلج كثيف ورعد وسيول .الطرقات باتت مغلقة .السموات لاتمطر سوى العواصف .النسائم ضلت سبيلها لأوقات السحر فجفت ينابيع الندى .صدأت الحقول والغابات والوديان والهضاب والسهول .غرقت المواسم .تحجرت الفراغات فى الزوايا والأركان امتطيت صهوة جوادى العشق قلت لعله يأخذنى الى الأزمنة القديمة باحثا عن ليلى . كيف يكون حالها لو عادت الى زماننا؟ ستكف عن قراءة قصائد شاعرها , لن تمنحه دفقة من حدقات عيونها أو تبثه لواعج قلبها, وهو سيغادر مناطق القصيدة الى وديان الصمت فزماننا لايليق بليلى وعاشقها , قلت :أهيئ ذاتى لعشق من نوع آخر .لقصيدة مغايرة .لزمن مختلف, قلت :أبنى بيتا من شعر أقيم فيه مع محبوبى ,لكن المحبوب صرخ فى وجهى : كيف يكون بمقدورى الإقامة فى أوطان, تصلب فيها الطيور, وتغتال البراءة ويسكن حدائقها الصبار , وتفترس الألوان وتهجرها الشواطئ وتصيب نساءها القشعريرة من سطوة الذئاب .
واصل المحبوب الصراخ: أى أوطان تسألنى الإقامة فيها ؟ بعد أن فقدت براءة صلواتها وأوصالها تقطعت صارت متاحة لحاملى السيوف والعسس والبصاصين ,طرقت أبوابها من قبل حالما بالوصول الى توهجها القديم وطزاجتها المشتهاة وفتنتها المحجوبة وهديل حمامها وصحوها الذى كان
قلت : أيا محبوبى خذنى معك الى سيرتى الأولى
قال: يحجبك عنى عشقك لهذه الأوطان
قلت : هل عشقها حرام ؟
قال: لا, لكن هذه الأوطان هى من حرم العشق وأصدرت مراسيمها بمعاقبة الشعراء ,فتعاقبت عليها فصول المراثى , وغابت عنها حدائق البهجة .
السطور الأخيرة :
أولا : اعتراف
اعترف ..
لست الغازل الحقيقى
لقصائد منشورة باسمى
على ضفاف الأنهار
وسواحل عينيك
ومدارات النهار
فوق جدران المعابد
وأحجار الياقوت
وبوح الأشجار
...
لم أعزف دمى بموسيقى عينيك
الولهى بالندى والنثار
لم أشد خيولى
لترمح
فى زمردك السليمانى
يتبوأه وجهك المليح
المغزول بمرجان البحار
...
لم أدفع فواتير شعر
تراكمت ..فانجبس العشق
تائها .. بين حمرة خجل
وسكون خليج معطر
برائحتك أيتها اللؤلؤ والمحار
...
اعترف
لم يكن عشقى الذى
تجلى بين سطور القصائد
سوى كوة صغيرة
أما الجبل
فيسكن الخرائط
وتضاريس البلاد
يكتب اسمك
هلالا
يذيب صهد الأقمار
يروى حدائق رحيلى
بعاصفة تتدلى من عينيك
لاتبقى ولاتذر
سوى أنت
جدلية وحيدة
فى كتاب العشق
والنار
ثانيا :أيتها السوسنة
طالع أنا من رحيق سنواتك
ممتزجا بهناءات الروح
الرامحة فى مسافات العشق
يسكننى
يسلبنى حضورى
يكتبنى قصيدة بريحان الأزمنة
متوهجة حقولى
مسكونة بوجهك الأٍسطورى
مفتونة بخبزك
بالقرنفل يردد كل صباح:
اسمك منى
هو عزف النوارس
رائحة البحر
وحلم لعاشق
ما زال يقرأ بعينيك السنا
هو إشارة لسواحل العطر
تتجلى فى تخومى
تنسينى جوعى
بين شظايا الثلج والنار
أسافر الى بلاد أنت فيها القمح والأشعار
أتمدد
فألمح قدس أقداسك
يعمدنى بالضوء والهنا
مازلت - أيتها الرامحة بحقولى
ورسم العشق -
ببراءتك مفتتنا
فأنت رحلة العمرالزاخربضياء
لاتنفذ نهاياته
لأنك أيقونة القلب وسر توهجى
أنا
ثالثا : رائحة البنفسج المسافرة
صامت الأشجار صامتة الطرقات
الموانئ المطارات
أعبر اليك
مغلفا بجوع أبدى
فيك رائحة البنفسج المسافرة
قلت : أيها الوجع عد أدراجك
أنتظم فى صفوفك الخلفية
أبقى سادرا فى غيك
سامدا
هائما فى الجدران
...
أسكن تضاريس الصمت
فينبرى العدم مغنيا
فاردا أشرعته بتخومى
أترقب القيامة
هل تستأذن من وهج عينيك؟
قلت : إنك لؤلؤ البلاد
والقلب
همس العصافير بمتوالية الصباحات
لكنه الصمت أيا سيدتى
يخترق خيماتى
فتكف عن بعث القصائد
...
هو الصمت أبايعه خليفة
للمدائن
يتشرنق فى بلاط السلطان
تنشده الجوارى والغلمان
يسكب حليبه فى الوديان
أيا راحلة بمدارات الشمس
غازلة الحضور فى الغياب
ناسجة وجدى بجسدك المرمرى
الطالع من الياقوت والمرجان
كونى اشتهائى لليلك
لفتنة الحقول
واشتعال العشق فى الحنايا
أيتها المهرة الساكنة فى الروح
هل تقرضينى ألقا
من فيض بهائك يسكن فى الوجدان؟