لا شك أن أعلى مراحل السلام النفسي الداخلي، هي الوصول لمرحلة التصالح التام بين العقل والقلب، وهى أكبر المراحل التي تتجلى فيها صفة السعادة المنشودة- قمة الرضا والتسليم بقضاء وحكمة وإرادة الله ويظهر لك فيها فضل المولى عليك.
أما على النقيض، إن شبّ الصراع المحتوم بين العقل والقلب، وهبّت عواصفه، واشتعلت نار الفتنة، ودُقت طبول الحرب بينهما، وهى حرب لإعلان الأقوى وإثبات الوجود لأيهما، فيبدأ كل منهما باستعراض أسباب قوته، مع تقديم عروضه وإغراءاته ووعوده بتحقيق الرضا للنفس لكى تتبعه وتُقر كلمته، ويتم تتويجه المسيطر على الأقوال و المتحكم في الأفعال التي تصدر عن النفس.
أما النفس فتنهارُ قواها، ويُغتال سلامها، ويُسرق منها هدوءها وثباتها، في احتدام صراعات العقل والقلب الدامية، وفشلهما في الوصول إلى حل يرضيها، اطلبوا لها السلام فحالها لا يعلمه سوى الله، كما أن مصيرها سينتهى أيضاً بكلمة من الله. وأكثر ما يؤلم آنذاك أن النفس في وقت تلك الصراعات المحتدمة مازالت تدعى الثبات.
وإن مرّ القلب بحالة العشق والهيام، وأراد أن يفرض كلمته على النفس، فيبدأ بإغرائها بقدرته على إشاعة البهجة والفرح فيها، وذلك رغم ما يحيط بهذا الحب من عواصف وغيوم ومصاعب وهموم، قد يراها العقل بعين بصيرته واضحة جلية كالشمس في كبد السماء، فيبدأ هو الآخر بتصحيح مسار الدفة لصالحه مع إعلان نفسه المنقذ من تصرفات قلبٍ قد تودى بحياة النفس وتُلحق بها الأذى.
لذا وحسماً لهذا الصراع تبدأ النفس بإجراء الصلح بينهما و إبرام الاتفاقيات ووضع الشروط التي تمنع حدوث الفوضى وتقلل من فرص عودة نشوب الصراع مرات ومرات.
ولكن كالعادة لا يلتزم القلب بأي اتفاق، بل يهدد ويثور، ويعلن التمرد بغرور، فيستخدم سلاح التهديدات الذى يتقنه وببراعة، فتجده صارخاً مخترقاً حالة الهدوء الوليدة والتي لم يكتب لها الاستمرار، ثم يُعلن حالة الحزن التام على الجسد كله، فتبكى العين دمعاً كثيراً، ويسرى في الدم وجعاً كبيراً، وينبتُ من تحت الجلد يأساً عظيماً وتسوّدُ الدنيا في عين النفس، فلم تعد ترى فرحاً أو أملا أو حتى ألوان.
وترى النفس حالة التمردِ هذه، فتتدخل ثانية قبل نشوب الصراع من جديد، واستيقاظ العقل، وإعلان استعداده هو الأخير، للسيطرة على قلب لم يفقد صوابه وحسب، بل يريد أن يعصف بالجسد كله بعصيانه الماجن.
فتبدأ النفس أخيراً وبعد عناء باستئناف لغة المفاوضات، ولأول مرة تسمح لهما بالحوار، دون تدخل منها إلا إذا لزم الأمر، مع وعد أن ترضى بالتحكيم بينهما والامتثال والتسليم التام لمن يملك الحُجة والحكمة منهما، ومن يحقق لها السلام، فهدف الحوار هو تحقيق السلام وكفى، وتحقيق السلام شرط للقبول والتسليم والاستسلام لأيهما، كما تحدد النفس أيضاً آداب الحوار، وهى ألا يقاطع أحدهما الآخر، وألا يتطاول أحدهما على الآخر وألا يقلل أيهما من شأن الآخر، وأن يسودَ الاحترام حديثهما فلا تمرد أو عصيان.
والحقيقة التي لا يمكن نسيانها أن النفس تملك العصمة وحق تقرير المصير للجسد كله.
وتُطلق النفس إشارة بدء الحوار وتأمر القلب بأن يُخرج ما يدور بداخله في صراحة وهدوء، فيبدأ ويقول:
أحببتُه و بجنون.. هو أحلى ما في الكون.. كُلى به مفتون.. لا أرى غيره بين العيون... أسمعُ صوته في السكون ... وأتنفسُ بقلبه الحنون.. نسيانه لن يكون... فحبه لم ولن يهون..
فيرد العقل: كيف تحبُ شخصاً عنك بعيد... لا يأتيكَ إلا وقتما يُريد...وكيف لأشواقكَ أن تزيد ... واهتمامه بك بالكاد وزهيد.. وتخيلاتك وأحلامك ما عادت لتُفيد... أما نسيان الأشخاص فأمرٌ عادى وليس بجديد...أفق يا قلب فأنت لست برشيد...ولن تلقى منى أىّ دعمٍ أو تأييد.
هنا تتدخل النفس فتأمر العقل بالرفق بالقلب، فتقول: رفقاً به فمازال جريح.. يبكى وجعاً وذبيح... ومن احتلال الألم له يكاد يصيح...ويشكو يريد أن يستريح.. فإن لم ترفق به فلسوف يموت.. وبموته لن يحيى الجميع. ولا تقسو عليه حتى إن كان لك غير مطيع..فلم يتخيل يوما أن يكون كالصريع..فالأمر ليس بيده وما بإرادته الرفض أو التمنيع..أمهله رويدا ليهدأ وستراه وديع ولأمرك سميع.
جاء ذلك بعد صمتها - وقد عاهدت نفسها على الاستماع فقط - ولكن تأثرت بلغة العقل القوية المتهكمة والساخرة من القلب .
يجيبُ القلب باكياً وصارخاً بأعلى صوته: يا عقل .. أنا لستُ بسفيه... بل أنت القاسي السليط...هو بعيد ولكن بقلبي قريب...وأرضَى به وقتما يُريد... أشواقي وحنيني ملكٌ لي ..لا دخلَ لك بها أيها العنيد!!
تتدخل النفس ثانية مهددة بوقف الحوار، إن لم يتركوا لغة الجدال، وأن يُعلوا مصلحة النفس في كل الأحوال.
فيُجيب العقل وقد بدا عليه الأسف: لم أقصد لك الإساءةِ أو التقليل...فأنت صديق ولا أرضى لك بالقليل... أردتُ أن تستعيدَ نفسك من جديد... فأنت والله غالى وحزنك لشديد...
يأتي دور القلب ولكنه يصرح بأن وجعه وألمه يمنعه الرد، فتأمر النفس العقل بمواصلة الحديث.
فيرد العقل: هذا الحب مصيرُهُ معروف... الفراق هو المصيرُ المحتوم...وسَتَحيَى وسط الظلام والخوف... وستشرب من كأس الألم المكتوم... ولا أرضى لك أن تكون المهزوم...من شخصٍ قاسي القلب ظلوم...خذ قرار الهروبِ المحسوم.وانقذ ما بقى منك من فُتاتٍ مهدوم...فوجعك وقتها نعم موجود...ولكنه أقل بكثير من جُرحِ المهزوم...
القلب منكراً فاقداً اتزانه ويكاد يلفظ آخر أنفاسه :أنا لا أملك قراري بالفرار..
- العقل: أخاف عليك أن تُحرق بالنار..
-القلب: هو يسكنُ بداخلي كالاستعمار.
-العقل: أخرجه منك بلا أي اعتذار.
-القلب: صدقني سأنهار وموتى بات كالنهار.
-العقل: أعلنها بقوة واتخذ قرارك بإصرار.
-القلب: أرجوك انتظر ما سيقدم من أعذار.
-العقل: لستَ مضطراً على قبول شخص غريب الأطوار.
- القلب: أيُرضيك موتى ووجعي وألمى وانكسار...
-العقل: يُرضيني كبرياءك ..وألا تعيش على انتظار..
-القلب: النفس وعدتنى بالاختيار
-العقل:كن حرا ولا تخضع فلن تغير الأقدار.
وتتدخل النفس للمرة الأخيرة ولكن بانزعاج شديد فتقل لهم كفى!! أنهيتُ الحوار.. فسلامى بات مهدداً بالانتحار، أوقفوا الكلام وأنهوا الصراع فما عاد يُرضيني أي كلام، فقد قررت وسأعلن القرار..
ولكن قبل إعلان القرار، إليكم حُكمي عليكما، وتقييمي لتصرفكما، لا جدال في أنكما الاثنان خُلقتما لتُرضوني وتحققا لي الراحة والسلام والسعادة والأمان، وأقسمتما بالولاء والطاعة لي كما جميع المخلوقات، ولكنكما خُنتم ما أقسمتم عليه، فالقلب بات ولاءه وحنينه ومشاعره لغيرى، أما العقل ظهر مستنداً إلى المنطق، نعم، ولكن أيضاً ليس لصالحي ولكن ليُثبت أنهُ الأفضل فقط، ارجعوا إلى ما أمرتم به، فلا تنتموا لغيرى ولا تُحبوا أحداً أكثرَ مِنى، فسلامى هو من اليوم هدفكما، هذا فقط لفتٌ للانتباه.
أما قراري فبات يقينياً لا يحمل للشك مجال، فمن بينِ كلِ هذه الإرادات، إرادة القلب و إرادة العقل، أعلنها وبقوة وهدوء وارتياح: أنا، لقد اخترتُ إرادة الله، فهو لن يضيعني ولن يخذلني ومعه في طريقه مهما طال.